كتاب قواعد قرآنية - 50 قاعدة قرآنية في النفس والحياة
الشيخ عمر بن عبد الله المقبل
القاعدة العاشرة : { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ }
الشيخ عمر بن عبد الله المقبل
القاعدة العاشرة : { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ }
إنها قاعدة جليلة قرآنية محكمة مؤكَّدة، تشع منها القدرة الإلهية؛ لتساند جند الإيمان في كل زمان ومكان، "ومعلوم أن نصر الله إنما هو باتباع ما شرعه: بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه ونصرة رسله وأتباعهم، ونصرة دينه وجهاد أعدائه، وقهرهم حتى تكون كلمته جل وعلا هي العليا، وكلمة أعدائه هي السفلى")(أضواءالبيان: (5/ 265))
إن هذه القاعدة العظيمة هي سنة من سنن الله تعالى الماضية مضي الليل والنهار، الراسخة رسوخ الجبال.
"وقوله سبحانه :{ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ } عطف على جملة { وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ }، أي أمر الله المسلمين بالدفاع عن دينهم، وضمن لهم النصر في ذلك الدفاع؛ لأنهم بدفاعهم ينصرون دين الله، فكأنهم نصروا الله؛ ولذلك أكد الجملة بلام القسم ونون التوكيد (التحريروالتنوير: (1/ 202)
وهذه القاعدة جاءت ضمن آيتني كريمتين، أبرزتا أسباب النصر، يقول تعالى:
{ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) [الحج]َ
ففي هاتين الآيتين الكريمتين وعد الله ُ بالنصر من ينصره وعدا مؤكدا بمؤكدات َمعنوية ولفظية:
أما المؤكدات اللفظية : فهي القسم َّ المقدُر ، لأن التقدير: ( والله لينصرن اللهُ من ينصره ) وكذلك اللام والنون في { وَلَيَنصُرَنَّ } كلاهما يفيد َ التوكيد
وأما التوكيد ُّ المعنوي: ففي قوله { إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } فهو سبحانه قوي َّلا يضعف وعزيز لا يذل ، وكل قوة وعزة ستضاده ستكون ذُلاً ً وضعفا
وفي قوله سبحانه: { وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } تثبيت للمؤمن عندما يستبعد النصر في نظره لبعد أسبابه عنده ، فإن عواقب الأمور لله وحَدُه َ ، يغيرِّ َ سبحانه ما شاء حسب ما تقتضيه حكمته (مجالس شهر رمضان (95) للعثيمين)
وهذه الجملة التي تضمنتها هذه القاعدة جاءت عطفا على جملة: { وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ } بالجهاد وإقامة الحدود { لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا } (( وفي الآية قراءتان: بتخفيف الدال (هُدِمَتْ) وبالتشديد على التكثير، فالتخفيف يكون للتقليل والتكثير والتشديد يختص بالتكثير، ينظر: تفسير البغوي (5 /389 )) .
فإن قيل: لم قدمت مساجد أهل الذمة ومصلياتهم على مساجد المسلمين؟ قيل: لأنها أقدم بناء. وقيل: لقربها من الهدم وقرب المساجد من الذكر، كما أخر السابق في قوله عز وجل: { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) } [فاطر] ((ينظر: تفسير القرطبي (12 / 72))
وهذه هي معابد أهل الملل الكبرى ثم قال سبحانه بعد ذلك -مؤكدا هذه القاعدة والسنة الإلهية المطردة - : { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ }
والسؤال: كيف يكون نصر الله؟
وهل الله محتاج إلى نصره وهو الغني القوي العزيز؟
والجواب على ذلك: أن نصره يكون بنصرة دينه، ونصرة نبيه صلى الله عليه وسلم في حياته، ونصرة سنته بعد مماته ، وتتمة الآية التي بعدها تكشف حقيقة النصر الذي يحبه الله ُ، ويريده، بل هو النصر الكفيل باستمرار التمكين في الأرض، قال تعالى: { الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) [الحج]
لذا، ما نُصِرَ دين الله بأعظم من إظهار هذه الشعائر العظيمة:
ُالصلاة: التي هي صلة بين العباد وربهم، وبها يستمدون قوتهم الحسية والمعنوية، وراحتهم النفسية. ِ
وإيتاء الزكاة: فأدوا حق المال، وانتصروا على شح النفس، وتطهروا من الحرص، وغلبوا وسوسة الشيطان، وسدوا خلة الجماعة، وكفلوا الضعاف فيها والمحاويج، وحققوا لها صفة الجسم الحي ( في ظلال القرآن 4/2427)
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وفيه إصلاح لغيرهم، فالناس ما بين جاهل ٍ ، أو غافل، فهؤلاء يؤمرون بالخير ويذكرون به، أو عاص ومعاند فهؤلاء يُنهون عن المنكر.
فمتى ما علم الله من أي أمة من الأمم أو دولة من الدول أنها ستقيم هذه الأصول الأربعة من أصول التمكين؛ أمدها الله بتوفيقه، وعونه وإن تكالبت عليها الأمم، وفي سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، ومن سار سيرتهم أصدق الشواهد وأنصعها.
أما إذا علم الله من أحوالهم أنهم إذا عادوا إلى الأرض ومكنوا فيها ما أقاموا صلاة ً ، ولا آتوا زكاة ً ، ولا رجحوا معروفا، ولا قبحوا منكرا، فإن الله تعالى يكلهم إلى أنفسهم، ويسلط عليهم عدوهم، أو يلبسهم شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض، وفي التاريخ عبرة!
وإنك لتعجب - بعد هذا الإيضاح الرباني لأصول النصر والتمكين- من أناس ينتسبون إلى الإسلام، كيف تنكبوا عنه؟ أم كيف استبدلوا به مذاهب لا دينية أصلاً؟ ّ ولا ينسى الناس قول أحد القياديين في منظمة التحرير الفلسطينية -لما أرادوا إعلان الدولة الفلسطينية -: نريدها دولة علمانية!
إن انتصار اليهود على هؤلاء أقرب؛ فهم أهل كتاب ودين وإن كانوا قتلة مجرمين. إن من يقرأ القرآن الكريم بأدنى تأمل، سيجد الحديث فيه ظاهرا وبينا عن أسباب ْ النصر وأسباب الهزيمة في مواطن متفرقة، وهي تحكي مواقف وقعت لأشرف جيش عرفته الدنيا، قائده محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجنوده الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
لقد تساءل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في أُحد عن سبب الهزيمة؟
فجاء الجواب من السماء :
{ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)} [آل عمران]
وفي حنين، وقع إعجاب من بعض مُسلمة الفتح بكثرتهم، فكاد الجيش أن ينهزم، فجاء التعقيب الذي تضمن تذكيرا بمنن الله عليهم في مواطن كثيرة:
{ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ (25) } [التوبة]
( وفي حديث القرآن عن غزوة بدر -في سورة الأنفال - تصريح بأهم أسباب النصر وأخطر أسباب الهزيمة:
{ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَاللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) [الأنفال]
ونجد تصريحا بسبب آخر من أسباب النصر ألا وهو الإيمان، إذ يقول الله تعالى :
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)} [الروم]
والسؤال: أين النصر اليوم عن المسلمين؟
المسلمون في بلدان كثيرة مضطهدون ً مهزومون، يعيشون ضعفا ً ويذوقون عجزا!
أين النسخ المكررة من يوم الفرقان في بدر الكبرى؟ ويوم الأحزاب؟ واليرموك؟ َ ونهاوند؟ أو يوم كُسرِ التتار حين غزوا بلاد الإسلام في أوائل القرن الثامن؟!
إنني حرصت أن أنقل إجابات أربعة من علماء الإسلام في القديم والحديث، ٍ ومن نواح متفرقة، من المغرب والمشرق؛ لنرى كيف ينظر هؤلاء العلماء إلى الداء والدواء:
يقول القرطبي (ت: 671هـ) مجيبا على هذا السؤال القديم في ضوء هذه القاعدة { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ }
هكذا يجب علينا نحن أن نفعل (أي أن ننصر دين الله) لكن الأعمال القبيحة والنيات الفاسدة منعت من ذلك حتى ينكسر العدد الكبير منا قدام اليسير من العدو كما شاهدناه غير مرة! وذلك بما كسبت أيدينا
وفي البخاري: قال أبو الدرداء: إنما تقاتلون بأعمالكم وفيه مسند (أي في صحيح البخاري حديث مسند) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
( هل تُرْزَقون وتُنْصَرون إلا بضُعَفائِكم ) ( صحيح البخاري ح 2896)
وفي رواية النسائي: إنَّما نصرَ اللَّهُ هذِه الأمَّةَ بضَعَفَتِهم بدعواتِهم وصلاتِهم وإخلاصِهم
، وله شاهد من حديث أبي الدرداء عند أحمد والنسائي بلفظ: إنما تُنصرونَ وتُرزقونَ بضعفائِكم
، قال ابن بطال : تأويل الحديث أن الضعفاء أشد إخلاصا في الدعاء، وأكثر خشوعا في العبادة؛ لخلاء قلوبهم عن التعلق بزخرف الدنيا . فتح الباري لإبن حجر 6/89))
فالأعمال فاسدة والضعفاء مهملون والصبر قليل والاعتماد ضعيف والتقوى زائلة، قال الله تعالى:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)} [آل عمران] وقال سبحانه:
{ قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (23)} المائدة ] وقال عز وجل :
{ إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ (128)} [النحل] وقال تعالى:
{ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)} [الحج] وقال عز من قائل:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ (45)} [الأنفال]
فهذه أسباب النصر وشروطه، وهي معدومة عندنا غير موجودة فينا! فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما أصابنا وحل بنا! بل لم يبق من الإسلام إلا ذكره، ولا من الدين إلا رسمه! لظهور الفساد ولكثرة الطغيان وقلة الرشاد، حتى استولى العدو شرقا وغربا برا وبحرا، وعمت الفتن وعظمت المحن! ولا عاصم إلا من رحم (تفسير القرطبي3 /255))
ويقول الإمام ابن تيمية (ت: 728 هـ) مشخصا الداء ومبينًا الدواء:
إذا كان في المسلمين ضعف، وكان العدو مستظهرا عليهم؛ كان ذلك بسبب ذنوبهم وخطاياهم - إما لتفريطهم في أداء الواجبات باطنًا وظاهرا- وإما بعدوانهم بتعدي الحدود باطنًا وظاهرا، قال الله تعالى:
{ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)} [آل عمران] ، وقال تعالى:
{ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)} [آل عمران] وقد قال تعالى:
{ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)} [الحج] (مجموعة الرسائل والمسائل لإبن تيمية - رشيد رضا -: (1 /58))
وللعلامة الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله ( ت: 1354هـ ) جواب عن هذا ٍالسؤال يحسن إيراده ، وهو العالم الذي عاش فترة ضعف وهوان شديدين مرت بهما أمة الإسلام:
و لكننا نرى كثيرا من الذين يدعون الإيمان في هذه القرون الأخيرة غير منصورين، فلا بد أن يكونوا في دعوى الإيمان غير صادقين، أو يكونوا ظالمين غير مظلومين، ولأهوائهم لا لله ناصرين، ولسننه في أسباب النصر غير متبعين، وإن الله لا يخلف وعده ولا يبطل سننه، وإنما ينصر المؤمن الصادق وهو من يقصد نصر الله وإعلاء كلمته، ويتحرى الحق والعدل في حربه لا الظالم الباغي على ذي الحق والعدل من خلقه، يدل على ذلك أول ما نزل في شرع القتال قوله تعالى - من سورة الحج-:
{ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ... (39)} إلى قوله: { وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ.. (40)}
فأما الرسل الذين نصرهم الله ومن معهم فقد كانوا كلهم مظلومين، وبالحق والعدل معتصمين، ولله ناصرين. وقد اشترط الله مثل ذلك في نصر سائر المؤمنين، فقال في -سورة القتال-:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)} [ محمد ]
والإيمان سبب حقيقي من أسباب النصر المعنوية، يكون مرجحا بين من تساوت أسباهبم الأخرى، فليس النصر به من خوارق العادات ( تفسير المنار )7 /317.))
وأما العلامة عبدالرحمن السعدي رحمه الله (ت: 1376هـ) فيضمن بيانه عن الداء والدواء حديثاً مهما عن الفأل، فيقول:
إيمان ضعيف، وقلوب متفرقة، وحكومات متشتتة، وعداوات وبغضاء باعدت بين المسلمين، وأعداء ظاهرون وباطنون، يعملون سرا وعلنًا للقضاء على الدين، َ وإلحاد وماديات، جرفت بتيارها الخبيث، وأمواجها المتلاطمة الشيوخ والشبان، ودعايات إلى فساد الأخلاق، والقضاء على بقية الرمق!!
ثم إقبال الناس على زخارف الدنيا، وبحيث كانت هي مبلغ علمهم، وأكبر همهم، ولها يرضون ويغضبون، ودعاية خبيثة للتزهيد في الآخرة، والإقبال بالكلية على تعمير الدنيا وتدمير الدين، واحتقار واستهزاء بالدين وما ينسب إليه، وفخر وفخفخة، واستكبار بالمدنيات المبنية على الإلحاد التي آثارها وشرها وشررها قد شاهده العباد...
ولكن مع ذلك: فإن المؤمن لا يقنط من رحمة الله، ولا ييأس من روح الله، ولا يكون نظره مقصورا على الأسباب الظاهرة، بل يكون ملتفتا في قلبه كل وقت إلى مسبب الأسباب، الكريم الوهاب، ويكون الفرج بين عينيه، ووعده الذي لا يخلفه، بأنه سيجعل الله بعد عسر يسرا، وأن الفرج مع الكرب، وأن تفريج الكربات مع شدة الكربات وحلول المفظعات (بهجة قلوب الأبرار ص230)
ُنسأل الله تعالى أن يعز دينه وأن يجعلنا من أنصاره، وأن يُظهر أولياءه، ويذل أعداءه..
يتبع تمهيد الكتاب
إن هذه القاعدة العظيمة هي سنة من سنن الله تعالى الماضية مضي الليل والنهار، الراسخة رسوخ الجبال.
"وقوله سبحانه :{ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ } عطف على جملة { وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ }، أي أمر الله المسلمين بالدفاع عن دينهم، وضمن لهم النصر في ذلك الدفاع؛ لأنهم بدفاعهم ينصرون دين الله، فكأنهم نصروا الله؛ ولذلك أكد الجملة بلام القسم ونون التوكيد (التحريروالتنوير: (1/ 202)
وهذه القاعدة جاءت ضمن آيتني كريمتين، أبرزتا أسباب النصر، يقول تعالى:
{ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) [الحج]َ
ففي هاتين الآيتين الكريمتين وعد الله ُ بالنصر من ينصره وعدا مؤكدا بمؤكدات َمعنوية ولفظية:
أما المؤكدات اللفظية : فهي القسم َّ المقدُر ، لأن التقدير: ( والله لينصرن اللهُ من ينصره ) وكذلك اللام والنون في { وَلَيَنصُرَنَّ } كلاهما يفيد َ التوكيد
وأما التوكيد ُّ المعنوي: ففي قوله { إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } فهو سبحانه قوي َّلا يضعف وعزيز لا يذل ، وكل قوة وعزة ستضاده ستكون ذُلاً ً وضعفا
وفي قوله سبحانه: { وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } تثبيت للمؤمن عندما يستبعد النصر في نظره لبعد أسبابه عنده ، فإن عواقب الأمور لله وحَدُه َ ، يغيرِّ َ سبحانه ما شاء حسب ما تقتضيه حكمته (مجالس شهر رمضان (95) للعثيمين)
وهذه الجملة التي تضمنتها هذه القاعدة جاءت عطفا على جملة: { وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ } بالجهاد وإقامة الحدود { لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا } (( وفي الآية قراءتان: بتخفيف الدال (هُدِمَتْ) وبالتشديد على التكثير، فالتخفيف يكون للتقليل والتكثير والتشديد يختص بالتكثير، ينظر: تفسير البغوي (5 /389 )) .
فإن قيل: لم قدمت مساجد أهل الذمة ومصلياتهم على مساجد المسلمين؟ قيل: لأنها أقدم بناء. وقيل: لقربها من الهدم وقرب المساجد من الذكر، كما أخر السابق في قوله عز وجل: { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) } [فاطر] ((ينظر: تفسير القرطبي (12 / 72))
وهذه هي معابد أهل الملل الكبرى ثم قال سبحانه بعد ذلك -مؤكدا هذه القاعدة والسنة الإلهية المطردة - : { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ }
والسؤال: كيف يكون نصر الله؟
وهل الله محتاج إلى نصره وهو الغني القوي العزيز؟
والجواب على ذلك: أن نصره يكون بنصرة دينه، ونصرة نبيه صلى الله عليه وسلم في حياته، ونصرة سنته بعد مماته ، وتتمة الآية التي بعدها تكشف حقيقة النصر الذي يحبه الله ُ، ويريده، بل هو النصر الكفيل باستمرار التمكين في الأرض، قال تعالى: { الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) [الحج]
لذا، ما نُصِرَ دين الله بأعظم من إظهار هذه الشعائر العظيمة:
ُالصلاة: التي هي صلة بين العباد وربهم، وبها يستمدون قوتهم الحسية والمعنوية، وراحتهم النفسية. ِ
وإيتاء الزكاة: فأدوا حق المال، وانتصروا على شح النفس، وتطهروا من الحرص، وغلبوا وسوسة الشيطان، وسدوا خلة الجماعة، وكفلوا الضعاف فيها والمحاويج، وحققوا لها صفة الجسم الحي ( في ظلال القرآن 4/2427)
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وفيه إصلاح لغيرهم، فالناس ما بين جاهل ٍ ، أو غافل، فهؤلاء يؤمرون بالخير ويذكرون به، أو عاص ومعاند فهؤلاء يُنهون عن المنكر.
فمتى ما علم الله من أي أمة من الأمم أو دولة من الدول أنها ستقيم هذه الأصول الأربعة من أصول التمكين؛ أمدها الله بتوفيقه، وعونه وإن تكالبت عليها الأمم، وفي سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، ومن سار سيرتهم أصدق الشواهد وأنصعها.
أما إذا علم الله من أحوالهم أنهم إذا عادوا إلى الأرض ومكنوا فيها ما أقاموا صلاة ً ، ولا آتوا زكاة ً ، ولا رجحوا معروفا، ولا قبحوا منكرا، فإن الله تعالى يكلهم إلى أنفسهم، ويسلط عليهم عدوهم، أو يلبسهم شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض، وفي التاريخ عبرة!
وإنك لتعجب - بعد هذا الإيضاح الرباني لأصول النصر والتمكين- من أناس ينتسبون إلى الإسلام، كيف تنكبوا عنه؟ أم كيف استبدلوا به مذاهب لا دينية أصلاً؟ ّ ولا ينسى الناس قول أحد القياديين في منظمة التحرير الفلسطينية -لما أرادوا إعلان الدولة الفلسطينية -: نريدها دولة علمانية!
إن انتصار اليهود على هؤلاء أقرب؛ فهم أهل كتاب ودين وإن كانوا قتلة مجرمين. إن من يقرأ القرآن الكريم بأدنى تأمل، سيجد الحديث فيه ظاهرا وبينا عن أسباب ْ النصر وأسباب الهزيمة في مواطن متفرقة، وهي تحكي مواقف وقعت لأشرف جيش عرفته الدنيا، قائده محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجنوده الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
لقد تساءل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في أُحد عن سبب الهزيمة؟
فجاء الجواب من السماء :
{ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)} [آل عمران]
وفي حنين، وقع إعجاب من بعض مُسلمة الفتح بكثرتهم، فكاد الجيش أن ينهزم، فجاء التعقيب الذي تضمن تذكيرا بمنن الله عليهم في مواطن كثيرة:
{ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ (25) } [التوبة]
( وفي حديث القرآن عن غزوة بدر -في سورة الأنفال - تصريح بأهم أسباب النصر وأخطر أسباب الهزيمة:
{ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَاللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) [الأنفال]
ونجد تصريحا بسبب آخر من أسباب النصر ألا وهو الإيمان، إذ يقول الله تعالى :
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)} [الروم]
والسؤال: أين النصر اليوم عن المسلمين؟
المسلمون في بلدان كثيرة مضطهدون ً مهزومون، يعيشون ضعفا ً ويذوقون عجزا!
أين النسخ المكررة من يوم الفرقان في بدر الكبرى؟ ويوم الأحزاب؟ واليرموك؟ َ ونهاوند؟ أو يوم كُسرِ التتار حين غزوا بلاد الإسلام في أوائل القرن الثامن؟!
إنني حرصت أن أنقل إجابات أربعة من علماء الإسلام في القديم والحديث، ٍ ومن نواح متفرقة، من المغرب والمشرق؛ لنرى كيف ينظر هؤلاء العلماء إلى الداء والدواء:
يقول القرطبي (ت: 671هـ) مجيبا على هذا السؤال القديم في ضوء هذه القاعدة { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ }
هكذا يجب علينا نحن أن نفعل (أي أن ننصر دين الله) لكن الأعمال القبيحة والنيات الفاسدة منعت من ذلك حتى ينكسر العدد الكبير منا قدام اليسير من العدو كما شاهدناه غير مرة! وذلك بما كسبت أيدينا
وفي البخاري: قال أبو الدرداء: إنما تقاتلون بأعمالكم وفيه مسند (أي في صحيح البخاري حديث مسند) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
( هل تُرْزَقون وتُنْصَرون إلا بضُعَفائِكم ) ( صحيح البخاري ح 2896)
وفي رواية النسائي: إنَّما نصرَ اللَّهُ هذِه الأمَّةَ بضَعَفَتِهم بدعواتِهم وصلاتِهم وإخلاصِهم
، وله شاهد من حديث أبي الدرداء عند أحمد والنسائي بلفظ: إنما تُنصرونَ وتُرزقونَ بضعفائِكم
، قال ابن بطال : تأويل الحديث أن الضعفاء أشد إخلاصا في الدعاء، وأكثر خشوعا في العبادة؛ لخلاء قلوبهم عن التعلق بزخرف الدنيا . فتح الباري لإبن حجر 6/89))
فالأعمال فاسدة والضعفاء مهملون والصبر قليل والاعتماد ضعيف والتقوى زائلة، قال الله تعالى:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)} [آل عمران] وقال سبحانه:
{ قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (23)} المائدة ] وقال عز وجل :
{ إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ (128)} [النحل] وقال تعالى:
{ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)} [الحج] وقال عز من قائل:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ (45)} [الأنفال]
فهذه أسباب النصر وشروطه، وهي معدومة عندنا غير موجودة فينا! فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما أصابنا وحل بنا! بل لم يبق من الإسلام إلا ذكره، ولا من الدين إلا رسمه! لظهور الفساد ولكثرة الطغيان وقلة الرشاد، حتى استولى العدو شرقا وغربا برا وبحرا، وعمت الفتن وعظمت المحن! ولا عاصم إلا من رحم (تفسير القرطبي3 /255))
ويقول الإمام ابن تيمية (ت: 728 هـ) مشخصا الداء ومبينًا الدواء:
إذا كان في المسلمين ضعف، وكان العدو مستظهرا عليهم؛ كان ذلك بسبب ذنوبهم وخطاياهم - إما لتفريطهم في أداء الواجبات باطنًا وظاهرا- وإما بعدوانهم بتعدي الحدود باطنًا وظاهرا، قال الله تعالى:
{ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)} [آل عمران] ، وقال تعالى:
{ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)} [آل عمران] وقد قال تعالى:
{ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)} [الحج] (مجموعة الرسائل والمسائل لإبن تيمية - رشيد رضا -: (1 /58))
وللعلامة الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله ( ت: 1354هـ ) جواب عن هذا ٍالسؤال يحسن إيراده ، وهو العالم الذي عاش فترة ضعف وهوان شديدين مرت بهما أمة الإسلام:
و لكننا نرى كثيرا من الذين يدعون الإيمان في هذه القرون الأخيرة غير منصورين، فلا بد أن يكونوا في دعوى الإيمان غير صادقين، أو يكونوا ظالمين غير مظلومين، ولأهوائهم لا لله ناصرين، ولسننه في أسباب النصر غير متبعين، وإن الله لا يخلف وعده ولا يبطل سننه، وإنما ينصر المؤمن الصادق وهو من يقصد نصر الله وإعلاء كلمته، ويتحرى الحق والعدل في حربه لا الظالم الباغي على ذي الحق والعدل من خلقه، يدل على ذلك أول ما نزل في شرع القتال قوله تعالى - من سورة الحج-:
{ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ... (39)} إلى قوله: { وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ.. (40)}
فأما الرسل الذين نصرهم الله ومن معهم فقد كانوا كلهم مظلومين، وبالحق والعدل معتصمين، ولله ناصرين. وقد اشترط الله مثل ذلك في نصر سائر المؤمنين، فقال في -سورة القتال-:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)} [ محمد ]
والإيمان سبب حقيقي من أسباب النصر المعنوية، يكون مرجحا بين من تساوت أسباهبم الأخرى، فليس النصر به من خوارق العادات ( تفسير المنار )7 /317.))
وأما العلامة عبدالرحمن السعدي رحمه الله (ت: 1376هـ) فيضمن بيانه عن الداء والدواء حديثاً مهما عن الفأل، فيقول:
إيمان ضعيف، وقلوب متفرقة، وحكومات متشتتة، وعداوات وبغضاء باعدت بين المسلمين، وأعداء ظاهرون وباطنون، يعملون سرا وعلنًا للقضاء على الدين، َ وإلحاد وماديات، جرفت بتيارها الخبيث، وأمواجها المتلاطمة الشيوخ والشبان، ودعايات إلى فساد الأخلاق، والقضاء على بقية الرمق!!
ثم إقبال الناس على زخارف الدنيا، وبحيث كانت هي مبلغ علمهم، وأكبر همهم، ولها يرضون ويغضبون، ودعاية خبيثة للتزهيد في الآخرة، والإقبال بالكلية على تعمير الدنيا وتدمير الدين، واحتقار واستهزاء بالدين وما ينسب إليه، وفخر وفخفخة، واستكبار بالمدنيات المبنية على الإلحاد التي آثارها وشرها وشررها قد شاهده العباد...
ولكن مع ذلك: فإن المؤمن لا يقنط من رحمة الله، ولا ييأس من روح الله، ولا يكون نظره مقصورا على الأسباب الظاهرة، بل يكون ملتفتا في قلبه كل وقت إلى مسبب الأسباب، الكريم الوهاب، ويكون الفرج بين عينيه، ووعده الذي لا يخلفه، بأنه سيجعل الله بعد عسر يسرا، وأن الفرج مع الكرب، وأن تفريج الكربات مع شدة الكربات وحلول المفظعات (بهجة قلوب الأبرار ص230)
ُنسأل الله تعالى أن يعز دينه وأن يجعلنا من أنصاره، وأن يُظهر أولياءه، ويذل أعداءه..
يتبع تمهيد الكتاب